فصل: تفسير الآيات رقم (38- 43)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ‏(‏11‏)‏ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

إِنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن قبله‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 9‏]‏ لما شمل قومَ نوح وهم أول الأمم كذبوا الرسل حَسَّن اقتضاب التذكير بأخذهم لِمَا فيه من إدماج امتنان على جميع الناس الذين تناسلوا من الفئة الذين نجاهم الله من الغرق ليتخلص من كونه عِظة وعبرة إلى التذكير بأنه نعمة، وهذا من قبيل الإِدماج‏.‏

وقد بُني على شهرة مُهلك قوم نوح اعتبارُه كالمذكور في الكلام فجعل شرطاً ل ‏{‏لمَّا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنا لمّا طغا الماء حملناكم في الجارية‏}‏، أي في ذلك الوقت المعروف بطغيان الطوفان‏.‏

والطغيان‏:‏ مستعار لشدته الخارقة للعادة تشبيهاً لها بطغيان الطاغي على الناس تشبيه تقريب فإن الطوفان أقوى شدة من طغيان الطاغي‏.‏

و ‏{‏الجارية‏}‏‏:‏ صفة لمحذوف وهو السفينة وقد شاع هذا الوصف حتى صار بمنزلة الاسم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وله الجواري المنشآت في البحر‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وأصل الحمل وضع جسم فوق جسم لنقله، وأطلق هنا على الوضع في ظرف متنقل على وجه الاستعارة‏.‏

وإسناد الحمل إلى اسم الجلالة مجاز عقلي بناء على أنه أوحى إلى نوح بصنع الحاملة ووضع المحمول قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين‏}‏ الآية ‏[‏المؤمنون‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وذكر إحدى الحِكَم والعلل لهذا الحمل وهي حكمة تذكير البشر به على تعاقب الأعصار ليكون لهم باعثاً على الشكر، وعظةً لهم من أسواء الكفر، وليخبر بها من عَلِمها قوماً لم يعلموها فتعيهَا أسماعهم‏.‏

والمراد ب ‏{‏أذن‏}‏‏:‏ آذَان واعية‏.‏ وعموم النكرة في سياق الإِثبات لا يستفاد إلا بقرينة التعميم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولْتنظُرْ نفسٌ ما قدّمَتْ لِغَدٍ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والوعي‏:‏ العلم بالمسموعات، أي ولتعلم خبرها أذن موصوفة بالوعي، أي من شأنها أن تعي‏.‏

وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يتعظوا بخبر الطوفان والسفينة التي نجا بها المؤمنون فتلقوه كما يتلقون القصص الفكاهية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ‏(‏14‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏15‏)‏ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ‏(‏16‏)‏ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع ما بعدها على التهويل الذي صُدرت به السورة من قوله‏:‏ ‏{‏الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقّة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 13‏]‏ فعلم أنه تهويل لأمر العذاب الذي هُدد به المشركون من أمثال ما نال أمثالهم في الدنيا‏.‏ ومن عذاب الآخرة الذي ينتظرهم، فلما أتم تهديدهم بعذاب الدنيا فرع عليه إنذارهم بعذاب الآخرة الذي يحل عند القارعة التي كذبوا بها كما كذبت بها ثمود وعاد، فحصل من هذا بيان للقارعة بأنها ساعة البعثثِ وهي الواقعة‏.‏

و ‏{‏الصور‏}‏‏:‏ قرن ثَوْر يقعر ويجعل في داخله سِداد يسُد بعض فراغه حتى إذا نفَخ فيه نافخ انضغط الهواء فصوَّت صوتاً قوياً، وكانت الجنود تتخذه لنداء بعضهم بعضاً عند إرادة النفير أو الهجوم، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله المُلْك يوم ينفخ في الصور‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏73‏)‏‏.‏

والنفخ في الصور‏:‏ عبارة عن أمر التكوين بإحياء الأجساد للبعث مُثِّل الإِحياء بنداء طائفة الجند المكلفة بالأبواق لنداء بقية الجيش حيث لا يتأخر جندي عن الحضور إلى موضع المناداة، وقد يكون للملك الموكَّل موجود يصوّت صوتاً مؤثّراً‏.‏

و ‏{‏نفخة‏:‏‏}‏ مصدر نفخ مقترن بهاء دالة على المرة، أي الوحدة فهو في الأصل مفعول مطلق، أو تقع على النيابة عن الفاعل للعلم بأن فاعل النفخ الملك الموكّل بالنفخ في الصور وهو إسرافيل‏.‏

ووصفت ‏{‏نفخة ب واحدة‏}‏ تأكيد لإِفادة الوحدة من صيغة الفعلة تنصيصاً على الوحدة المفادة من التاء‏.‏

والتنصيص على هذا للتنبيه على التعجيب من تأثر جميع الأجساد البشرية بنفخة واحدة دون تكرير تعجيباً عن عظيم قدرة الله ونفوذ أمره لأن سياق الكلام من مبدأ السورة تهويل يوم القيامة فَتعداد أهواله مقصود، ولأجل القصد إليه هنا لم يذكر وصف واحد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دَعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏}‏ في سورة الروم ‏(‏25‏)‏‏.‏

فحصل من ذكر نفحة واحدة تأكيد معنى النفخ وتأكيد معنى الوحدة، وهذا يبين ما روي عن صاحب «الكشاف» في تقريره بلفظٍ مجمل نقله الطيبي، فليس المراد بوصفها ب ‏{‏واحدة‏}‏ أنها غير مُتَبعة بثانية فقد جاء في آيات أخرى أنهما نفختان، بل المراد أنها غير محتاج حصولُ المراد منها إلى تكررها كناية عن سرعة وقوع الواقعة، أي يوم الواقعة‏.‏

وأما ذكر كلمة ‏{‏نفخة‏}‏ فليتأتى إجراء وصف الوحدة عليها فذِكر ‏{‏نفخة‏}‏ تبعٌ غير مسوق له الكلام فتكون هذه النفخة هي الأولى وهي المؤذنة بانقراض الدنيا ثم تقع النفخة الثانية التي تكون عند بعث الأموات‏.‏

وجملة ‏{‏وحُملت الأرض والجبال‏}‏ الخ في موضع الحال لأن دَكّ الأرضضِ والجبال قد يحصل قبل النفخ في الصور لأن به فناء الدنيا‏.‏

ومعنى ‏{‏حُملت‏:‏‏}‏ أنها أُزيلت من أماكنها بأن أُبعدت الأرض بجبالها عن مدارها المعتاد فارتطمت بأجرام أُخرى في الفضاء ‏{‏فدكَّتا‏}‏، فشبهت هذه الحالة بحمل الحامل شيئاً ليلقيه على الأرض، مثل حمل الكرة بين اللاعبين، ويجوز أن يكون تصرف الملائكة الموكلين بنقض نظام العالم في الكرة الأرضية بإبعادها عن مدارها مشبهاً بالحمل وذلك كله عند اختلال الجاذبية التي جعلها الله لحفظ نظام العالم إلى أمد معلوم لله تعالى‏.‏

والدك‏:‏ دَقّ شديد يكسر الشيء المدقوق، أي فإذا فرقت أجزاء الأرض وأجزاء جبالها‏.‏

وبنيت أفعال ‏{‏نفخ، وحُملت، ودُكّتا‏}‏ للمجهول لأن الغرض متعلق ببيان المفعول لا الفاعل وفاعل تلك الأفعال إما الملائكة أو ما أودعه الله من أسباب تلك الأفعال، والكل بإذن الله وقدرته‏.‏

وجملة ‏{‏فيومئذٍ وقعت الواقعة‏}‏ مشتملة على جواب ‏(‏إذَا‏)‏، أعني قولَه ‏{‏وقعت الواقعة،‏}‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏فيومئذٍ‏}‏ فهو تأكيد لمعنى ‏{‏فإذا نُفخ في الصور‏}‏ إلخ لأن تنوين ‏(‏يومئذٍ‏)‏ عوض عن جملة تدل عليها جملة ‏{‏نُفخ في الصور‏}‏ إلى قوله ‏{‏دَكّة واحدة،‏}‏ أي فيوم إذ نفخ في الصور إلى آخره وقعت الواقعة وهو تأكيد لفظي بمرادف المؤكَّد، فإن المراد ب ‏(‏يوم‏)‏ من قوله ‏{‏فيومئذٍ وقَعت الواقعة،‏}‏ مطلقُ الزمان كما هو الغالب في وقوعه مُضافاً إلى ‏(‏إذا‏)‏‏.‏

ومعنى ‏{‏وقعت الواقعة‏}‏ تحقق ما كان متوقَّعاً وقوعُه لأنهم كانوا يُتَوعَّدون بواقعة عظيمة فيومئذٍ يتحقق ما كانوا يُتوعدون به‏.‏

فعبر عنه بفعل المضي تنبيهاً على تحقيق حصوله‏.‏

والمعنى‏:‏ فحينئذٍ تقع الواقعة‏.‏

و ‏{‏الواقعة‏}‏‏:‏ مرادفة للحاقة والقارعة، فذكرها إظهار في مقام الإِضمار لزيادة التهويل وإفادة ما تحتوي عليه من الأحوال التي تنبئ عنها موارد اشتقاق أوصاف الحاقة والقارعة والواقعة‏.‏

و ‏{‏الواقعة‏}‏ صار علماً بالغلبة في اصطلاح القرآن يوم البعث قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا وقَعت الواقعة ليس لوقْعَتِها كاذبة‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وفعل ‏{‏انشقت السماء‏}‏ يجوز أن يكون معطوفاً على جملة ‏{‏نفخ في الصور‏}‏ فيكون ملحقاً بشرط ‏(‏إذا‏)‏، وتأخيرُ عطفه لأجل ما اتصل بهذا الانشقاق من وصف الملائكة المحيطين بها، ومن ذكر العرش الذي يحيط بالسماوات وذكر حملته‏.‏

ويجوز أن يكون جملة في موضع الحال بتقدير‏:‏ وقد انشقت السماء‏.‏

وانشقاق السماء‏:‏ مطاوعتها لِفعل الشق، والشقُّ‏:‏ فتح منافذ في محيطها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم تشقق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلاً المُلكُ يومئذٍ الحقُ للرحمان وكان يوماً على الكافرين عسيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏

ثم يحتمل أنه غير الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 37‏]‏ ويحتمل أنه عينه‏.‏

وحقيقة ‏{‏واهية‏}‏ ضعيفة ومتفرقة، ويستعار الوهي للسهولة وعدم الممانعة، يقال‏:‏ وهَى عزمه، إذا تسامح وتساهل، وفي المثل «أوهى من بيت العنكبوت» يضرب لعدم نهوض الحجة‏.‏

وتقييده ب ‏{‏يومئذٍ‏}‏ أن الوهي طرا عليها بعد أن كانت صلبة بتماسك أجزائها وهو المعبر عنه في القرآن بالرتق كما عبر عن الشق بالفتق، أي فهي يومئذٍ مطروقة مسلوكة‏.‏

والوهي‏:‏ قريب من الوهن، والأكثر أن الوهْي يوصف به الأشياء غير العاقلة، والوهن يوصف به الناس‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الملائكة يترددون إليها صعوداً ونزولاً خلافاً لحالها مِن قبلُ قال تعالى‏:‏

‏{‏فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏والمَلَك على أرجائها،‏}‏ حال من ضمير ‏{‏فهي‏}‏، أي ويومئذٍ الملك على أرجائها‏.‏

و ‏{‏المَلك‏}‏‏:‏ أصله الواحد من الملائكة، وتعريفه هنا تعريف الجنس وهو في معنى الجمع، أي جنس المَلَك، أي جماعة من الملائكة أو جميع الملائكة إذا أريد الاستغراق، واستغراق المفرد أصرح في الدلالة على الشمول، ولذلك قال ابن عباس‏:‏ الكتابُ أكْثَرُ من الكُتب، ومنه ‏{‏ربّ إني وهَن العظمُ منّي‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

والأرجاء‏:‏ النواحي بلُغة هذيل، واحدُها رجَا مقصوراً وألفه منقلبة عن الواو‏.‏

وضمير ‏{‏أرجائها‏}‏ عائد إلى ‏{‏السماء‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الملائكة يعملون في نواحي السماء ينفّذون إنزال أهل الجنة بالجنة وسَوق أهل النار إلى النار‏.‏

وعرش الرب‏:‏ اسم لما يحيط بالسماوات وهو أعظم من السماوات‏.‏

والمراد بالثمانية الذين يحملون العرش‏:‏ ثمانيةٌ من الملائكة، فقيل‏:‏ ثمانية شخوص، وقيل‏:‏ ثمانية صُفوف، وقيل ثمانية أعشار، أي نحو ثمانين من مجموع عدد الملائكة، وقيل غير ذلك، وهذا من أحوال الغيب التي لا يتعلق الغرض بتفصيلها، إذ المقصود من الآية تمثيل عظمة الله تعالى وتقريب ذلك إلى الأفهام كما قال في غير آية‏.‏

ولعل المقصود بالإِشارة إلى ما زاد على الموعظة، هو تعليم الله نبيئه شيئاً من تلك الأحوال بطريقة رمزية يفتح عليه بفهم تفصيلها ولم يُرد تشغيلنا بعلمها‏.‏

وكأنَّ الدَّاعي إلى ذكرهم إجمالاً هو الانتقال إلى الأخبار عن عرش الله لئلا يكون ذكره اقتضاباً بعد ذكر الملائكة‏.‏

وروى الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عن النبي حديثاً ذكر فيه أبْعَادَ ما بين السماوات، وفي ذكر حملة العرش رموز ساقها الترمذي مساق التفسير لهذه الآية، وأحد رواتِه عبد الله بن عُميرة عن الأحْنف بن قيس قال البخاري‏:‏ لا نعلم له سماعاً عن الأحنف‏.‏

وهنالك أخبار غير حديث العباس لا يعبأ بها، وقال ابن العربي فيها‏:‏ إنها متلفقات من أهل الكتاب أو من شعر لأمية بن أبي الصلت، ولم يصح أن النبي أنشد بين يديه فصدّقه‏.‏ اه‏.‏

وضمير فوقهم‏}‏ يعود إلى ‏{‏المَلك‏}‏‏.‏

ويتعلق ‏{‏فوقَهم‏}‏ ب ‏{‏يحمل عرش ربّك‏}‏ وهو تأكيد لما دّل عليه يحمل من كون العرش عالياً فهو بمنزلة القيدين في قوله‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وإضافة عرش إلى الله إضافة تشريف مثل إضافة الكعبة إليه في قوله‏:‏ ‏{‏وطهر بيتي للطائفين‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏، والله منزه عن الجلوس على العرش وعن السكنى في بيت‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏تُعرضون‏}‏ لجميع الناس بقرينة المقام وما بعد ذلك من التفصيل‏.‏

والعرض‏:‏ أصله إمْرار الأشياء على من يريد التأمل منها مثل عرض السلعة على المشتري وعرض الجيش على أميره، وأطلق هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة معَ جواز إرادة المعنى الصريح‏.‏

ومعنى ‏{‏لا تخفى منكم خافية‏:‏‏}‏ لا تخفى على الله ولا على ملائكته‏.‏

وتأنيث ‏{‏خافية‏}‏ لأنه وصف لموصوف مؤنث يقدر بالفَعلة من أفعال العباد، أو يقدر بنفْس، أي لا تختبئ من الحساب نفس أي أحد، ولا يلتبس كافر بمؤمن، ولا بارٌّ بفاجر‏.‏

وجملة ‏{‏يومئذٍ تعرضون‏}‏ مستأنفة، أو هي بيان لجملة ‏{‏فيومئذٍ وقعت الواقعة،‏}‏ أو بدل اشتمال منها‏.‏

و ‏{‏منكم‏}‏ صفة ل ‏{‏خافية‏}‏ قدمت عليه فتكون حالاً‏.‏

وتكرير ‏{‏يومئذٍ‏}‏ أربعَ مرات لتهويل ذلك اليوم الذي مبدؤه النفخ في الصور ثم يعقبه ما بعده مما ذكر في الجُمل بعده، فقد جرى ذكر ذلك اليوم خمس مرات لأن ‏{‏فيومئذٍ وقَعَتْ الواقعة‏}‏ تكرير ل ‏(‏إذا‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فإذا نفخ في الصور‏}‏ إذ تقدير المضاف إليه في ‏{‏يومئذٍ‏}‏ هو مدلول جملة ‏{‏فإذا نفخ في الصور،‏}‏ فقد ذكر زمان النفخ أولاً وتكرر ذكره بعد ذلك أربع مرات‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لا تخفى‏}‏ بمثناة فوقية‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية لأن تأنيث ‏{‏خافية‏}‏ غير حقيقي، مع وقوع الفصل بين الفعل وفاعله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ‏(‏19‏)‏ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ‏(‏20‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏21‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏22‏)‏ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ‏(‏23‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

الفاء تفصيل لما يتضمنه ‏{‏تُعرضون‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 18‏]‏ إذ العرض عرض للحساب والجزاء فإيتاء الكتاب هو إيقاف كل واحد على صحيفة أعمال‏.‏ و‏(‏أمَّا‏)‏ حرف تفصيل وشرطٍ وهو يفيد مفاد ‏(‏مَهْمَا يكن من شيء‏)‏، والمعنى‏:‏ مهما يكن عَرْض ‏{‏مَن أوتي كتابه بيمينه‏.‏‏.‏‏.‏ فهو في عيشة راضية‏}‏، وشأن الفاء الرَّابطة لجوابها أن يفصل بينها وبين ‏(‏أما‏)‏ بجُزء من جملة الجواب أو بشيء من متعلقات الجواب مهتَم به لأنهم لما التزموا حذف فعل الشرط لاندماجه في مدلول ‏(‏أما‏)‏ كرهوا اتصال فاء الجواب بأداة الشرط ففصلوا بينهما بفاصل تحسيناً لصورة الكلام، فقوله‏:‏ ‏{‏من أوتي كتابه بيمينه‏}‏ أصله صدر جملة الجواب، وهو مبتدأ خبره ‏{‏فيَقول هاؤم اقرأوا كتابيه‏}‏ كما سيأتي‏.‏

ودل قوله‏:‏ ‏{‏فأما من أوتي كتابه بيمينه‏}‏ على كلام محذوف للإِيجاز تقديره فيؤتى كلُّ أحد كتابَ أعماله، فأما من أوتي كتابه إلخ على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنْ اضربْ بعصاك البحرَ فانفلق‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بيمينه‏}‏ للمصاحبة أو بمعنى ‏(‏في‏)‏‏.‏

وإيتاء الكتاب باليمين علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير، والعرب يذكرون التناول باليمين كناية عن الاهتمام بالمأخوذ والاعتزاز به، قال الشمَّاخ‏:‏

إذا مَا رايةٌ رُفِعَتْ لمجد *** تلقّاها عَرابة باليمين

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود‏}‏ الآية ‏[‏الواقعة‏:‏ 2728‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم‏}‏ الآية ‏[‏الواقعة‏:‏ 4142‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏فيقول هَاؤُم اقروا كتابِيْه‏}‏ جواب شرط ‏(‏أمَّا‏)‏ وهو مغن عن خبر المبتدأ، وهذا القوْل قول ذي بهجة وحُبور يبعثان على إطْلاع الناس على ما في كتاب أعماله من جزاء في مقام الاغتباط والفخار، ففيه كناية عن كونه من حبور ونعيم فإن المعنى الكنائي هو الغرض الأهم من ذكر العَرْض‏.‏

و ‏{‏هاؤم‏}‏ مركب من ‏(‏هاء‏)‏ ممدوداً ومقصوراً والممدود مبني على فتح الهمزة إذا تجرد عن علامات الخطاب ما عدا الموجَّه إلى امرأة فهو بكسر الهمزة دون ياء‏.‏ وإذا خوطب به أكثر من واحد التُزم مدُّه ليتأتى إلحاق علامة خطاب كالعلامة التي تلحق ضمير المخاطب وضمُّوا همزته ضمةً كضمةِ ضمير الخطاب إذ لحقتْه علامة التثنية والجمع، فيقال‏:‏ هاؤُما، كما يقال‏:‏ أنتما، وهاؤُمُ كما يقال‏:‏ أنتم، وهاؤُنَّ كما يقال‏:‏ أنتن، ومن أهل اللغة من ادعى أن ‏{‏هاؤم‏}‏ أصله‏:‏ هَا أُمُّوا مركباً من كلمتين ‏(‏هَا‏)‏ وفعللِ أمر للجماعة من فعل أمَّ، إذا قصد، ثم خفف لكثرة الاستعمال، ولا يصح لأنه لم يسمع هاؤمين في خطاب جماعة النساء، وفيه لغات أخرى واستعمالات في اتصال كاف الخطاب به تقصاها الرضي في شرح «الكافية» وابن مكرم في «لسان العرب»‏.‏

و ‏{‏هاؤم‏}‏ بتصاريفه معتبر اسم فعل أمر بمعنى‏:‏ خذ، كما في «الكشاف» وبمعنى تعال، أيضاً كما في «النهاية»‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏هاؤم اقرأوا‏}‏ للصالحين من أهل المحشر‏.‏

و ‏{‏كتابيَه‏}‏ أصله‏:‏ كتابِيَ بتحريك ياء المتكلم على أحد وجُوه في يَاء المتكلم إذا وقعت مضافاً إليها وهو تحريك أحسب أنه يقصد به إظهار إضافة المضاف إلى تلك الياء للوقوف، محافظة على حركة الياء المقصودِ اجتلابها‏.‏

و ‏{‏اقرأُوا‏}‏ بيان للمقصود من اسم الفعل من قوله ‏{‏هاؤم‏.‏

وقد تنازع كل من هاؤُم واقرأوا‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏كتابيه‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ هاؤم كتابيه اقرأوا كتابيه‏.‏ والهاء في كتابيه ونظائرها للسْكتتِ حين الوقف‏.‏

وحق هذه الهاء أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل‏.‏ وقد أثبتت في هذه الآية في الحالين عند جمهور القراء وكتبت في المصاحف، فعلم أنها للتعبير عن الكلام المحكي بلغة ذلك القائل بما يرادفه في الاستعمال العربي لأن الاستعمال أن يأتي القائل بهذه الهاء بالوقف على كلتا الجملتين‏.‏

ولأن هذه الكلمات وقعت فواصل والفواصل مثل الأسجاع تعتبر بحالة الوقف مثل القوافي، فلو قيل‏:‏ اقرأوا كتابيَ إني ظننت أني ملاققٍ حسابيَ، سقطت فاصلتان وذلك تفريط في محسّنَيْن‏.‏

وقرأها يعقوب إذا وصلها بحذف الهاء والقراء يستحبون أن يقف عليها القارئ ليوافق مشهور رسم المصحف ولئلا يذهب حسن السجع‏.‏

وأُطلق الظن في قوله‏:‏ ‏{‏إني ظننت أني ملاققٍ حسابيه،‏}‏ على معنى اليقين وهو أحد معنييه، وعن الضحاك‏:‏ كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك‏.‏

وحقيقة الظن‏:‏ عِلم لم يتحقق؛ إِما لأن المعلوم به لم يقع بعدُ ولم يخرج إلى عالم الحس، وإِما لأن علم صاحبه مخلوط بشك‏.‏ وبهذا يكون إطلاق الظن على المعلوم المتيقن إطلاقاً حقيقياً‏.‏ وعلى هذا جرى الأزهري في «التهذيب» وأبو عمرو واقتصر على هذا المعنى ابن عطية‏.‏

وكلام «الكشاف» يدل على أن أصْل الظن‏:‏ علم غير متيقن ولكنه قد يُجرى مُجرى العِلْم لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، وقال‏:‏ يقال‏:‏ أظن ظناً كاليقين أن الأمر كَيت وكَيت، فهو عنده إذا أطلق على اليقين كان مجازاً‏.‏ وهذا أيضاً رأي الجوهري وابن سيده والفيروزابادي، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن نظن إلاّ ظناً وما نحن بمستيقنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏ فلا دلالة فيه لأن تنكير ‏{‏ظناً أريد به التقليل، وأكد، ب ما نحن بمستيقنين فاحتمل الاحتمالين، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا لنظنك من الكاذبين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏66‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه‏}‏ في سورة براءة ‏(‏118‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ إني علمت في الدنيا أني ألقى الحساب، أي آمنت بالبعث‏.‏ وهذا الخبر مستعمل كناية عن استعداده للحساب بتقديم الإِيمان والأعمال الصالحة مما كان سبب سعادته‏.‏

وجملة إني ظننت أني ملاق حسابيه‏}‏ في موقع التعليل للفرح والبهجة التي دل عليها قوله‏:‏ ‏{‏هاؤم اقرأُوا كتابيهْ‏}‏ وبذلك يكون حرف ‏(‏إنَّ‏)‏ لمجرد الاهتمام وإفادة التسبب‏.‏

وموقع ‏{‏فهو في عيشة راضية‏}‏ موقع التفريع على ما تقدم من إيتائه كتابه بيمينه وما كان لذلك من أثر المسرة والكرامة في المحشر، فتكون الفاء لتفريع ذكر هذه الجملة على ذكر ما قبلها‏.‏

ولك أن تجعلها بدل اشتمال من جملة ‏{‏فيقول هاؤم اقرأُوا كتابيه‏}‏ فإن ذلك القول اشتمل على أن قائله في نعيم كما تقدم وإعادة الفاء مع الجملة من إعادة العامل في المبدل منه مع البدل للتأكيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تكون لنا عيداً لأوَّلنا وآخرنا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 114‏]‏‏.‏

والعيشة‏:‏ حالة العيش وهيئته‏.‏

ووصف ‏{‏عيشة ب راضية‏}‏ مجاز عقلي لِملابسة العيشة حالةَ صاحبها وهو العائش ملابسة الصفةِ لموصوفها‏.‏

والراضي‏:‏ هو صاحب العيشة لا العِيشة، لأن ‏{‏راضية‏}‏ اسم فاعل رضيَت إذا حصل لها الرضى وهو الفرح والغبطة‏.‏

والعيشة ليست راضية ولكنها لحسنها رَضي صاحبها، فوصفُها ب ‏{‏راضية‏}‏ من إسناد الوصف إلى غير ما هو له وهو من المبالغة لأنه يدل على شدة الرضى بسببها حتى سرى إليها، ولذلك الاعتبار أرجع السكاكي ما يسمى بالمجاز العقلي إلى الاستعارة المكنية كما ذُكر في عالم البيان‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية وهي الملابسة‏.‏

وجملة ‏{‏في جنة عالية‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏فهو في عيشة راضية‏.‏

والعلوّ‏:‏ الارتفاع وهو من محاسن الجنّات لأن صاحبها يشرف على جهات من متسع النظر ولأنه يبدو له كثير من محاسن جنته حين ينظر إليها من أعلاها أو وسطها مما لا يَلوح لنظره لو كانت جنته في أرض منبسطة، وذلك من زيادة البهجة والمسرة، لأن جمال المناظر من مسرات النفس ومن النعم، ووقع في شعر زهير‏:‏

كأن عينيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلَة *** من النواضح تسقِي جَنَّة سُحُقاً

فقد قال أهل اللغة‏:‏ يجوز أن يكون سُحُقاً، نعتاً للجنة بدون تقدير كما قالوا‏:‏ ناقةُ عُلُط وامرأة عُطُل‏.‏ ولم يعرجوا على معنى السَّحَق فيها وهو الارتفاع لأن المرتفع بعيد، وقالوا‏:‏ سَحُقت النخلة ككرم إذا طالت‏.‏ وفي القرآن ‏{‏كمثَل جنة بربْوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 265‏]‏‏.‏

وجوزوا أن يراد أيضاً بالعلو علوّ القدر مثل فلان ذو درجة رفيعة، وبذلك كان للفظ ‏{‏عالية‏}‏ هنا ما ليس لقوله‏:‏ ‏{‏كمثل جنة بربوة‏}‏ لأن المراد هنالك جنة من الدنيا‏.‏

والقُطوف‏:‏ جمع قِطْف بكسر القاف وسكون الطاء، وهو الثمر، سمي بذلك لأنه يُقطف وأصله فِعل بمعنى مَفعول مثل ذِبْح‏.‏

ومعنى دُنوها‏:‏ قربها من أيدي المتناولين لأن ذلك أهنأ إذ لا كلفة فيه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وذُلِّلتْ قطوفُها تذليلاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ إلى آخرها مقول قول محذوف وهو ومقوله في موضع صفة ل ‏{‏جنة‏}‏ إذ التقدير‏:‏ يقال للفريق الذين يُؤتَون كتبهم بأيمانهم حين يستقرون في الجنة‏:‏ ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ الخ‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً عن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فهو في عيشة راضية‏.‏

وإنما أفردت ضمائر الفريق الذي أوتي كتابه بيمينه فيما تقدم ثم جاء الضمير ضمير جمع عند حكاية خطابهم لأن هذه الضمائر السابقة حُكيت معها أفعال مما يتلبس بكل فرد من الفريق عند إتمام حسابه‏.‏ وأما ضمير كلوا واشربوا‏}‏ فهو خطاب لجميع الفريق بعد حلولهم في الجنة، كما يدخل الضيوف إلى المأدبة فيُحيّي كل داخل منهم بكلام يخصه فإذا استقروا أقبل عليهم مضيِّفهم بعبارات الإِكرام‏.‏

و ‏{‏هنيئاً‏}‏ يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل إذا ثبت له الهناء فيكون منصوباً على النيابة عن المفعول المطلق لأنه وصفه وإسناد الهناء للأكل والشرب مجاز عقلي لأنهما متلبسان بالهناء للآكِللِ والشارب‏.‏

ويجوز أن يكون اسم فاعل من غير الثلاثي بوزن ما للثلاثي‏.‏ والتقدير‏:‏ مهنّئاً، أي سبب هناء، كما قال عَمرو بن معد يكرب‏:‏

أمِنْ ريْحَانَةَ الداعي السميع *** أي المسْمع، وكما وصف الله تعالى بالحكيم بمعنى الحُكم المصنوعات، ويجوز أن يكون فَعيلاً بمعنى مفعول، أي مَهْنِيئاً به‏.‏

وعلى الاحتمالات كلها فإفراد ‏{‏هنيئاً‏}‏ في حال أنه وصف لشيئين بناءٌ على أن فَعيلاً بمعنى فاعل لا يطابق موصوفه أو على أنه إذا كان صفة لمصدر فهو نائب عن موصوفه، والوصف بالمصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث‏.‏

و ‏{‏بما أسلفتم‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏كلوا واشربوا‏.‏

والباء للسببية‏.‏

ومَا صْدَقُ ‏(‏ما‏)‏ الموصولة هو العمل، أي الصالح‏.‏

والإِسلاف‏:‏ جعل الشيء سلفاً، أي سابقاً‏.‏

والمراد أنه مقدم سابق لإِبانه لينتفع به عند الحاجة إليه، ومنه اشتق السلَف للقرض، والإِسلاف للإِقراض، والسُّلْفَة للسَّلَم‏.‏

والأيام الخالية‏}‏‏:‏ الماضية البعيدة مشتق من الخلو وهو الشغور والبعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ‏(‏25‏)‏ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ‏(‏26‏)‏ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ‏(‏27‏)‏ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ‏(‏28‏)‏ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ‏(‏29‏)‏‏}‏

هذا قَسِيم ‏{‏من أُوتي كتابه بيمينه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 19‏]‏، فالقول في إيتائه كتابه بشماله قد عرف وجَهه ممَّا تقدم‏.‏

وتمنِّي كل من أوتي كتابه بشماله أنه لم يُؤْت كتابه، لأنه علم من الإِطلاع على كتابه أنه صائر إلى العذاب فيتمنى أن لا يكون عَلِم بذلك إبقاء على نفسه من حزنها زمناً فإن ترقُّب السوء عذاب‏.‏

وجملة ‏{‏ولم أدْرِ ما حسابيه‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏لَيتَني‏.‏

والمعنى‏:‏ إنه كان مكذباً بالحساب وهو مقابل قول الذي أوتي كتابه بيمينه‏:‏ ‏{‏إِني ظننتُ أني ملاقٍ حسابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وجملة الحال معترضة بين جملتي التمني‏.‏

ويجوز أن يكون عطفاً على التمني، أي يا ليتني لم أدر مَا حسابيَه، أي لم أعرِف كنه حسابي، أي نتيجته، وهذا وإن كان في معنى التمني الذي قبله فإِعادته تكرير لأجْل التحسر والتحزن‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ استفهامية، والاستفهام بها هو الذي عَلَّق فعل ‏{‏أدْرِ‏}‏ عن العمل، و‏{‏يا ليتها كانت القاضية‏}‏ تمنَ آخر ولم يعطف على التمنّي الأول لأن المقصود التحسر والتندم‏.‏

وضمير ‏{‏ليتها‏}‏ عائد إلى معلوم من السياق، أي ليت حالتي، أو ليت مصيبتي كانت القاضية‏.‏

و ‏{‏القاضية‏}‏‏:‏ الموت وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏، أي مقبوراً في التراب‏.‏

وجملة ‏{‏يا ليتها كانت القاضية‏}‏ من الكلام الصالح لأن يكون مثلاً لإيجازه ووفرة دلالته ورشاقة معناه عبر بها عما يقوله من أوتي كتابه بشماله من التحسر بالعبارة التي يقولها المتحسر في الدنيا بكلام عربي يؤدي المعنى المقصود‏.‏ ونظيره ما حكي عنهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دَعَوا هنالك ثبوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يا وَيْلَتَا ليتني لم أتَّخِذْ فُلاناً خليلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يا ويلتنا ما لهذا الكتاب الآية‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

ثم أخذ يتحسر على ما فرط فيه من الخير في الدنيا بالإِقبال على ما لم يُجْدِه في العالم الأبدي فقال‏:‏ ‏{‏ما أغنى عني مَاليَه‏}‏، أي يقول ذلك من كان ذا مال وذا سلطان من ذلك الفريق من جميع أهل الإشراك والكفر، فما ظنك بحسرة من اتبعوهم واقتدوا بهم إذا رأوهم كذلك، وفي هذا تعريض بسادة مشركي العرب مثل أبي جهل وأمية بن خلف قال تعالى‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النَّعمة‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وفي ‏{‏أغْنَى عَنّي‏}‏ الجناس الخَطِّي ولو مَع اختلاف قليل كما في قولهم «غرّك عِزُّك فَصَار قصارى ذَلِك ذُلّك»‏.‏

ومعنى هلاك السلطان‏:‏ عدم الانتفاع به يومئذٍ فهو هلاك مجازي‏.‏ وضمّن ‏{‏هلك‏}‏ معنى ‏(‏غاب‏)‏ فعدي ب ‏(‏عن‏)‏، أي لم يحضرني سلطاني الذي عهدته‏.‏

والقول في هاءَات ‏{‏كتابيهْ، وحسابيهْ، وماليهْ، وسلطانيهْ‏}‏، كالقول فيما تقدم إلاّ أن حمزة وخلفاً قرآ هنا ‏{‏ما أغنى عني مالِيه هلك عني سلطانيه‏}‏ بدون هاء في حالة الوصل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 37‏]‏

‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ‏(‏32‏)‏ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏34‏)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ‏(‏35‏)‏ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ‏(‏36‏)‏ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏خذوه‏}‏ مقول لقول محذوف موقعه في موقع الحال من ضمير ‏{‏فيقول يا ليتني لم أَوْت كتابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 25‏]‏، والتقدير‏:‏ يُقال‏:‏ خذوه‏.‏

ومعلوم من المقام أن المأمورين بأن يأخذوه هم الملائكة الموكلون بسَوق أهللِ الحساب إلى ما أُعد لهم‏.‏

والأخذ‏:‏ الإِمساك باليد‏.‏

وغُلُّوه‏:‏ أمر من غلّه إذا وضعه في الغُل وهو القيد الذي يجعل في عنق الجاني أو الأسير فهو فعل مشتق من اسم جامد، ولم يسمع إلاّ ثلاثياً ولعل قياسه أن يقال‏:‏ غَلَّله بلامين لأن الغُل مضاعف اللام، فحقه أن يكون مثل عَمَّم، إذا جعل له عمامة، وأزَّر، إذا ألبسه إزاراً، ودرَّع الجاريةَ، إذا ألبسها الدِرع، فلعلهم قالوا‏:‏ غَلَّه تخفيفاً‏.‏ وعطف بفاء التعقيب لإِفادة الإِسراع بوضعه في الأغلال عقب أخذه‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم الجحيم صلُّوه‏}‏ للتراخي الرتبي لأن مضمون الجملة المعطوفة بها أشد في العقاب من أخذه ووضعه في الأغلال‏.‏

وصلَّى‏:‏ مضاعف تضعيف تعدية لأن صَلِي النار معناه أصابه حرقها أو تدفَأ بها، فإذا عدّي قيل‏:‏ أصلاه ناراً، وصلاَّه ناراً‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه‏}‏ للتراخي الرتبي بالنسبة لمضمون الجملتين قبلها لأن مضمون ‏{‏في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً‏}‏ أعظم من مضمون ‏{‏فغلوه‏.‏

ومضمون فاسلكوه‏}‏ دل على إدخاله الجحيم فكان إسلاكه في تلك السلسلة أعظم من مطلق إسلاكه الجحيم‏.‏

ومعنى ‏{‏اسلكوه‏:‏‏}‏ اجعلوه سالِكاً، أي داخلاً في السلسلة وذلك بأن تَلف عليه السلسلة فيكون في وسطها، ويقال‏:‏ سلَكه، إذا أدخله في شيء، أي اجعلوه في الجحيم مكبَّلاً في أغلاله‏.‏

وتقديم ‏{‏الجحيمَ‏}‏ على عامله لتعجيل المساءة مع الرعاية على الفاصلة وكذلك تقديم ‏{‏في سلسلة‏}‏ على عامله‏.‏

واقتران فعل ‏{‏اسلكوه‏}‏ بالفاء إمَّا لتأكيد الفاء التي اقترنت بفعل ‏{‏فَغلّوه،‏}‏ وإما للايذان بأن الفعل منزل منزلة جزاء شرط محذوف، وهذا الحذف يشعر به تقديم المعمول غالباً كأنه قيل‏:‏ مهما فعلتم به شيئاً فاسلكوه في سلسلة، أو مهما يكن شيء فاسلكوه‏.‏

والمقصود تأكيد وقوع ذلك والحثُّ على عدم التفريط في الفعل وأنه لا يرجى له تخفيف، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربَّك فكبّر وثِيابَك فطهّر والرِّجز فاهجر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 35‏]‏، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا‏}‏ في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏‏.‏

والسلسلة‏:‏ اسم لمجموع حَلَققٍ من حديد داخللٍ بعضُ تلك الحَلَق في بعض تجعل لِوثاق شخص كي لا يزول من مكانه، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ في سورة غافر ‏(‏71‏)‏‏.‏

وجملة ذرعها سبعون ذراعاً‏}‏ صفة ‏{‏سِلْسلة‏}‏ وهذه الصفة وقعت معترضة بين المجرور ومتعلَّقِهِ للتهويل على المشركين المكذبين بالقارعة، وليست الجملة مما خوطب الملائكة الموكلون بسوْق المجرمين إلى العذاب، ولذلك فعَدَدُ السبعين مستعمل في معنى الكثرة على طريقة الكناية مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم‏}‏

‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏‏.‏

والذَّرع‏:‏ كيلُ طوللِ الجسم بالذراع وهو مقدار من الطول مقدر بذراع الإِنسان، وكانوا يقدرون بمقادير الأعضاء مثل الذراع، والأصبَع، والأنملة، والقَدم، وبالأبعاد التي بين الأعضاء مثل الشِبْر، والفِتْر، والرتب ‏(‏بفتح الراء والتاء‏)‏، والعَتَب، والبُصْم، والخُطوة‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحضّ على طعام المسكين‏}‏ في موضع العلة للأمر بأخذه وإصلائه الجحيم‏.‏

ووصف الله بالعظيم هنا إيماء إلى مناسبة عظم العذاب للذنب إذ كان الذنب كفراناً بعظيم فكان جزاء وفاقاً‏.‏

والحض على الشيء‏:‏ أن يَطْلُبَ من أحد فعلَ شيء ويُلِحّ في ذلك الطلب‏.‏

ونفي حضه على طعام المسكين يقتضي بطريق الفحوى أنه لا يُطعم المسكين من ماله لأنه إذا كان لا يأمر غيره بإطعام المسكين فهو لا يطعمه من ماله، فالمعنى لا يطعم المسكين ولا يأمر بإطعامه، وقد كان أهل الجاهلية يطعمون في الولائم، والميسر، والأضيَاف، والتحابُب، رياء وسُمعة‏.‏ ولا يطعمون الفقير إلاّ قليلاً منهم، وقد جُعل عدم الحض على طعام المسكين مبالغة في شح هذا الشخص عن المساكين بمال غيره وكناية عن الشحّ عنهم بماله، كما جُعل الحرص على إطعام الضيف كناية عن الكرم في قول زينب بنت الطَّثَرِيَّةِ ترثي أخاها يزيدَ‏:‏

إذا نَزل الأضياف كان عَذَوَّراً *** على الحَي حتى تَستقل مَراجِلُه

تريد أنه يحضر الحي ويستعجلهم على نصف القدور للأضياف حتى توضع قدور الحي على الأثافي ويَشرعوا في الطبخ، والعَذوَّر بعين مهملة وذال معجمة كعملَّس‏:‏ الشكِس الخُلق‏.‏

إلاّ أن كناية ما في الآية عن البخل أقوى من كناية ما في البيت عن الكرم لأن الملازمة في الآية حاصلة بطريق الأولوية بخلاف البيت‏.‏

وإذ قد جُعل عدم حضه على طعام المسكين جزء علة لشدة عذابه، علمنا من ذلك موعظة للمؤمنين زاجرة عن منع المساكين حقهم في الأموال وهو الحق المعروف في الزكاة والكفارات وغيرها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فليس له اليوم ههنا حميم‏}‏ من تمام الكلام الذي ابتدئ بقوله ‏{‏خذوه،‏}‏ وتفريع عليه‏.‏

والمقصود منه أن يسمعه من أوتي كتابه بشماله فييأس من أن يجد مدافعاً يدفع عنه بشفاعة، وتنديمٌ له على ما أضاعه في حياته من التزلف إلى الأصنام وسدنتها وتمويههم عليه أنه يجدهم عند الشدائد وإلمام المصائب‏.‏ وهذا وجه تقييد نفي الحميم ب ‏{‏اليوم‏}‏ تعريضاً بأن أحِمَّاءهم في الدنيا لا ينفعونهم اليوم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم نقول للذين أشركوا أيْن شركاؤكم الذين كنتم تزعمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 22‏]‏ وقوله عنهم ‏{‏فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏ وغير ذلك مما تفوق في آي القرآن‏.‏

فقوله ‏{‏له‏}‏ هو خبر ‏{‏ليس‏}‏ لأن المجرور بلام الاختصاص هو محط الأخبار دون ظرف المكان‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ههنا‏}‏ ظرف متعلق بالكون المنوي في الخبر بحرف الجر‏.‏ وهذا أولى من جعل ‏{‏ههنا‏}‏ خبراً عن ‏{‏ليس‏}‏ وجعل ‏{‏له‏}‏ صفةً ل ‏{‏حميم‏}‏ إذ لا حاجة لهذا الوصف‏.‏

والحَميم‏:‏ القريب، وهو هنا كناية عن النصير إذ المتعارف عند العرب أن أنصار المرء هم عشيرته وقبيلته‏.‏

‏{‏ولا طعام‏}‏ عطف على ‏{‏حميم‏.‏

والغِسلين‏:‏ بكسر الغين ما يدخل في أفواه أهل النار من المواد السائلة من الأجساد وماء النار ونحو ذلك مما يعلمه الله فهو عَلَم على ذلك مثل سِجين، وسرقين، وعِرنين، فقيل إنه فِعْلِين من الغَسل لأنه سَالَ من الأبدان فكأنه غُسل عنها‏.‏ ولا مِوجب لبيان اشتقاقه‏.‏

والخاطئون‏:‏‏}‏ أصحاب الخطايا يقال‏:‏ خطِئ إذا أذنب‏.‏

والمعنى‏:‏ لا يأكله إلاّ هو وأمثاله من الخاطئين‏.‏

وتعريف ‏{‏الخاطئون‏}‏ للدلالة على الكمال في الوصف، أي المرتكبون أشدّ الخِطأ وهو الإِشراك‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏الخاطئون‏}‏ بإظهار الهمزة، وقرأ أبو جعفر ‏{‏الخاطُون‏}‏ بضم الطاء بعدها واو على حذف الهمزة تخفيفاً بعد إبدالها ياء تخفيفاً‏.‏ وقال الطيبي‏:‏ قرأ حمزة عند الوقف الخاطيُون بإبدال الهمزة ياء ولم يذكره عنه غير الطيبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 43‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏40‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

الفاء هنا لتفريع إثبات أن القرآن منزل من عند الله ونفي ما نسبه المشركون إليه، تفريعاً على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من التعريض بتكذيب القرآن الذي أخبَر بوقوعه، وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم القائل إنه موحى به إليه من الله تعالى‏.‏

وابتدئ الكلام بالقَسَم تحقيقاً لمضمونه على طريقة الأقسام الواردة في القرآن، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصافات صفاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏أُقسم‏}‏ عائد إلى الله تعالى‏.‏ *

جمع الله في هذا القَسَم كل ما الشأن أن يُقسَم به من الأمور العظيمة من صفات الله تعالى ومن مخلوقاته الدالة على عظيم قدرته إذ يجمع ذلك كله الصِلَتان ‏{‏بما تبصرون وما لا تبصرون‏}‏، فمما يبصرون‏:‏ الأرض والجبال والبحار والنفوس البشرية والسماوات والكواكب، وما لا يبصرون‏:‏ الأرواح والملائكة وأمور الآخرة‏.‏

و ‏{‏لا أقسم‏}‏ صيغة تحقيققِ قَسَم، وأصلها أنها امتناع من القسَم امتناع تحرّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر حرف ‏(‏لا‏)‏ كالمزيد كما تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏75‏)‏، ومن المفسرين من جعل حرف ‏(‏لا‏)‏ في هذا القسم إبطالاً لكلام سابق وأنّ فعل أُقْسِم‏}‏ بعدها مستأنف، ونُقض هذا النوع بوقوع مثله في أوائل السور مثل‏:‏ ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏لا أقسم بهذا البلد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏إنه‏}‏ عائد إلى القرآن المفهوم من ذكر الحشر والبعث، فإن ذلك مما جاء به القرآن ومجيئه بذلك من أكبر أسباب تكذيبهم به، على أن إرادة القرآن من ضمائر الغيبة التي لا معاد لها قد تكرر غير مرة فيه‏.‏

وتأكيد الخبر بحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ واللاممِ للرد على الذين كذبوا أن يكون القرآن من كلام الله ونسبوه إلى غير ذلك‏.‏

والمراد بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه عطف قوله‏:‏ ‏{‏ولو تَقَول علينا بعض الأقاويل‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44‏]‏، وهذا كما وصف موسى ب ‏{‏رسول كريم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءَهم رسول كريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 17‏]‏ وإضافة ‏{‏قول‏}‏ إلى ‏{‏رسول‏}‏ لأنه الذي بلّغه فهو قائله، والإِضافة لأدنى ملابسة وإلاّ فالقرآن جَعَله الله تعالى وأجَراه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم كما صدر من جبريل بإيحائه بواسطته قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنما يسرناه بلسانك‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 97‏]‏‏.‏

رَوي مقاتل أن سبب نزولها‏:‏ أن أبا جهل قال‏:‏ إن محمداً شاعر، وأن عقبة بن أَبي مُعيط قال‏:‏ هو كاهن، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لقول رسول كريم‏}‏ الآية‏.‏

ويجوز أن يراد ب ‏{‏رسول كريم‏}‏ جبريل عليه السلام كما أريد به في سورة التكوير إذ الظاهر أن المراد به هنالك جبريل كما يأتي‏.‏

وفي لفظ ‏{‏رسول‏}‏ إيذان بأن القول قول مُرسله، أي الله تعالى، وقد أكد هذا المعنى بقوله عقبه ‏{‏تنزيل من رب العالمين‏.‏

ووصف الرسول ب كريم‏}‏ لأنه الكريم في صنفه، أي النفيس الأفضل مثل قوله‏:‏ ‏{‏إني أُلقي إليّ كتاب كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏‏.‏

وقد أثبت للرسول الفضل على غيره من الرسل بوصف كريم‏}‏، ونفي أن يكون شاعراً أو كاهناً بطريق الكناية عند قصد رد أقوالهم‏.‏

وعطف ‏{‏ولا بقول كاهن‏}‏ على جملة الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏بقول شاعر،‏}‏ و‏{‏لا‏}‏ النافية تأكيد لنفي ‏{‏ما‏}‏‏.‏

وكني بنفي أن يكون قولَ شاعر، أو قول كاهن عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعراً أو كاهناً، رد لقولهم‏:‏ هو شاعر أو هو كاهن‏.‏

وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم‏:‏ افتراه، أو هو مجنون، لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنوناً أو كاذباً إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف‏.‏

والمعنى‏:‏ ما هو قول شاعر ولا قول كاهن تلقاه من أحدهما ونسبَه إلى الله تعالى‏.‏

و ‏{‏قليلاً‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏قليلاً ما تؤمنون قليلاً ما تذكَّرون‏}‏ مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنون إلاّ قليلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 46‏]‏، وهو أسلوب عربي، قال ذو الرمة‏:‏

أُنيحَتْ ألْقَتْ بَلْدَةً فوق بَلْدةٍ *** قَلِيللٍ بها الأصواتُ إلاّ بُغَامُها

فإن استثناء بُغام راحلته دل على أنه أراد من ‏(‏قليل‏)‏ عدم الأصوات‏.‏

والمعنى‏:‏ لا تؤمنون ولا تذكرون، أي عندما تقولون هو شاعر وهو مجنون، ولا نظر إلى إيمان من آمن منهم من بعدُ‏.‏ وقد تقدم في سورة البقرة ‏(‏88‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏

وانتصب قليلاً في الموضعين على الصفة لمصدر محذوف يدل عليه ‏{‏تؤمنون‏}‏ و‏{‏تذكَّرون‏}‏ أي تؤمنون إيماناً قليلاً، وتذكَّرون تذكراً قليلاً‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ مزيدة للتأكيد كقول حاتم الطائي‏:‏

قليلاً به ما يَحْمَدَنَّك وَارث *** إذَا نال مما كنتَ تَجمع مَغْنَمَا

وجملتَا ‏{‏قليلاً ما تؤمنون قليلاً ما تذَّكَّرون‏}‏ معترضتان، أي انتفى أن يكون قول شاعر، وانتفى أن يكون قول كاهن، وهذا الانتفاء لا يحصِّل إيمانكم ولا تذكركم لأنكم أهل عناد‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ما تؤمنون، وما تذكرون‏}‏ كليهما بالمثناة الفوقية، وقرأهما ابن كثير وهشام عن ابن عامر ‏(‏واختلف الرواة عن ابن ذكوان عن ابن عامر‏)‏ ويعقوبُ بالياء التحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وحسَّن ذلك كونُهما معترضتين‏.‏

وأوثر نفي الإِيمان عنهم في جانب انتفاء أن يكون قول شاعر، ونفي التذكُّر في جانب انتفاء أن يكون قول كاهن، لأن نفي كون القرآن قول شاعر بديهي إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزائه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخرِ الأجزاء، فادعاؤهم أنه قول شاعر بهتان متعمَّد ينادي على أنهم لا يُرجى إيمانهم، وأما انتفاء كون القرآن قولَ كاهن فمحتاج إلى أدنى تأمل إذ قد يشبَّه في بادئ الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل ويؤلف كلام الكهان على أسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين، فإذا تأمل السامع فيه بأدنى تفكر في نظمه ومعانيه عَلم أنه ليس بقول كاهن، فنظمُه مخالف لنظم كلام الكهان إذ ليست فقراته قصيرة ولا فواصله مزدوجة ملتزم فيها السجع، ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإِخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث، أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها، فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفياً عنهم التذكر والتدبر، وإذا بطل هذا وذاك بطل مدعاهم فحق أنه تنزيل من رب العالمين كما ادعاه الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تنزيل من رب العالمين‏}‏ خبر ثان عن اسم ‏(‏إنّ‏)‏ وهو تصريح بعد الكناية‏.‏

ولك أن تجعل ‏{‏تنزيل من رب العالمين‏}‏ خبر مبتدأ محذوف جرى حذفه على النوع الذي سماه السكاكي بمتابعة الاستعمال في أمثاله وهو كثير في الكلام البليغ، وتجعلَ الجملة استئنافاً بيانياً لأن القرآن لمَّا وصف بأنه ‏{‏قول رسول كريم‏}‏ ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن، ترقَّب السامع معرفة كنهه، فبُين بأنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم ليقوله للناس ويتلوه عليهم‏.‏

و ‏{‏تنزيل‏}‏ وصف بالمصدر للمبالغة‏.‏

والمعنى‏:‏ إنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم‏.‏

وعبر عن الجلالة بوصف ‏{‏ربّ العالمين‏}‏ دون اسمِه العلَم للتنبيه على أنه رب المخاطَبين وربُ الشعراءِ والكهاننِ الذين كانوا بمحل التعظيم والإِعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون ‏{‏ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 26‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 47‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ‏(‏44‏)‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ‏(‏46‏)‏ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

هذه الجملة عطف على جملة ‏{‏فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 3839‏]‏ فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومَن جاء به وقال‏:‏ إنه وحي من الله تعالى‏.‏

فمفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي، بعد الاستدلال الأول المستند إلى القَسم والمؤكدات على طريقة الاستدلال الخَطابي‏.‏

وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة، وأنه عليم فلا يقرر أحداً على أن يقول عنه كلاماً لم يقله، أي لو لم يكن القرآن منزلاً من عندنا ومحمد ادعى أنه منزَّل مِنا، لما أقررناه على ذلك، ولعجّلنا بإهلاكه‏.‏ فعدَم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يتقوله على الله، فإن ‏{‏لو‏}‏ تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاءِ مضمون جوابها‏.‏

فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالاً جامعاً لإِبطال النوعين، أي ويوضح مخالفة القرآن لهذين النوعين من الكلام أن الآتي به ينسبه إلى وحي الله وما عَلِمْتُم شاعراً ولا كاهناً يزعم أن كلامَه من عند الله‏.‏

وثانيهما‏:‏ إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم ‏{‏افتراه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏، أي نسبه إلى الله افتراء وتقوّله على الله قال تعالى ‏{‏أم يقولون تقوَّله بَلْ لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 33‏]‏ فبين لهم أنه لو افترَى على الله لما أقرّه على ذلك‏.‏

ثم إن هذا الغرض يستتبع غرضاً آخر وهو تأييسهم من أن يأتي بقرآن لا يخالف دينَهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال الذين لا يرجون لقاءَنا إيْتتِ بقرآننٍ غيرِ هذا أو بَدِّلْه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وهذه الجملة معطوفة عطف اعتراض فلك أن تجعل الواو اعتراضية فإنه لا معنى للواو الاعتراضية إلاّ ذلك‏.‏

والتقول‏:‏ نسبة قول لمن لم يقله، وهو تفعُّل من القول صيغت هذه الصيغةَ الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولاً لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام، ولكونه في معنى كذب عُدي ب ‏(‏على‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ لو كذب علينا فأخبر أنا قلنا قولاً لم نقله إلخ‏.‏

و ‏{‏بعضَ‏}‏ اسم يدل على مقدار من نوع ما يضاف هو إليه، وهو هنا منصوب على المفعول به ل ‏{‏تقوَّل‏.‏

والأقاويل‏}‏‏:‏ جمع أقوال الذي هو جمع قول، أي بعضاً من جنس الأقوال التي هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة، أي ولو نسب إلينا قليلاً من أقواللٍ كثيرة صادقةٍ يعني لو نسب إلينا شيئاً قليلاً من القرآن لم ننزله لأخذنا منه باليمين، إلى آخره‏.‏

ومعنى ‏{‏لأخذنا منه باليمين‏}‏ لأخذناه بقوة، أي دون إمهال فالباء للسببية‏.‏

واليمين‏:‏ اليد اليمنى كني بها عن الاهتمام بالتمكن من المأخوذ، لأن اليمين أقوى عملاً من الشِمال لكثرة استخدامها فنسبة التصرف إليها شهيرة‏.‏

وتقدم ذلك في مواضع منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏224‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وعن أيمانهم وعن شمائلهم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏17‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تخطُّه بيمينك‏}‏ في سورة العنكبوت ‏(‏48‏)‏‏.‏

وقال أبو الغُول الطَهَوِي‏:‏

فدَت نفسي وما ملكتْ يميني *** فوارسَ صدَّقوا فيهم ظنوني

والمعنى‏:‏ لأخذناه أخذاً عاجلاً فقطعنا وتينه، وفي هذا تهويل لصورة الأخذ فلذلك لم يقتَصَرْ على نحو‏:‏ لأهْلكناه‏.‏

ومنه‏}‏ متعلق ب ‏(‏أخذنا‏)‏ تعلق المفعول بعامله‏.‏ و‏(‏مِن‏)‏ زائدة في الإِثبات على رأي الأخفش والكوفيين وهو الراجح‏.‏ وقد بينته عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجنا منه خَضِراً نُخرج منه حباً متراكباً ومن النخل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏، فإن ‏{‏النخل معطوف على خَضِرا بزيادة مِن‏}‏ ولولا اعتبار الزيادة لما استقام الإِعراب إلاّ بكلفة، وفائدة ‏{‏من‏}‏ الزائدة في الكلام أن أصلها التبعيض المجازي على وجه التمليح كأنه يقول‏:‏ نأخذ بعضَه‏.‏

و ‏{‏الوتين‏}‏‏:‏ عِرق معلَّق به القلب ويسمى النياط، وهو الذي يسقي الجسد بالدم ولذلك يقال له‏:‏ نَهرُ الجسد، وهو إذا قطع مات صاحبه وهو يقطع عند نحر الجزور‏.‏

فقطع الوتين من أحوَال الجزور ونحرها، فشبه عقاب من يُفرض تَقوُّله على الله بجزور تنحر فيقطع وتينها‏.‏

ولم أقف على أن العرب كانوا يكنّون عن الإِهلاك بقطع الوتين، فهذا من مبتكرات القرآن‏.‏

و ‏{‏منه‏}‏ صفة للوتين، أو متعلق ب ‏(‏قطعنا‏)‏، أي أزلناه منه‏.‏

وبينَ ‏{‏منه‏}‏ الأولى و‏{‏منه‏}‏ الثانية محسِّن الجناس‏.‏

وأما موقع تفريع قوله‏:‏ ‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ فهو شديد الاتصال بما استتبعه فرض التقوُّل من تأييسهم من أن يتقول على الله كلاماً لا يسوءَهم، ففي تلك الحالة من أحوال التَقوُّل لو أخذنَا منه باليمين فقطعنا منه الوتين، لا يستطيع أحد منكم أو من غيركم أن يحجز عنه ذلك العقاب، وبدون هذا الاتصال لا يَظهر معنى تعجيزهم عن نصره إذ ليسوا من الولاء له بمظنة نصره، فمعنى هذه الآية يحوم حول معنى قوله‏:‏ ‏{‏وإن كادُوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذن لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدتَ تركَنُ إليهم شيئاً قليلاً إذنْ لأذقناك ضِعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 73 75‏]‏‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ للمشركين‏.‏

وإنما أخبر عن ‏{‏أحد‏}‏ وهو مفرد ب ‏{‏حاجزين‏}‏ جمعاً لأن ‏{‏أحد‏}‏ هنا وإن كان لفظه مفرداً فهو في معنى الجمع لأن ‏{‏أحد‏}‏ إذا كان بمعنى ذات أو شخص لا يقع إلاّ في سياق النفي مثل عَريب، ودَيّار ونحوهما من النكرات التي لا تستعمل إلاّ منفية فيفيد العموم، أي كل واحد لا يستطيع الحجز عنه ويستوي في لفظه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا نُفرق بين أحد من رسله‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لَسْتُنَّ كأحدٍ من النساء‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ ما منكم أناس يستطيعون الحجز عنه‏.‏

والحجز‏:‏ الدفع والحيلولة، أي لا أحد منكم يحجزنا عنه‏.‏ والضمير عائد إلى ‏{‏رسول كريم‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 40‏]‏‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِن أحد‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم‏.‏ وذِكر ‏{‏منكم‏}‏ مع ‏{‏عنه‏}‏ تجنيس محرّف‏.‏

وهذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يُبقي أحداً يدعي أن الله أوحى إليه كلاماً يبلغه إلى الناس، وأنه يعجل بهلاكه‏.‏

فأما من يدعي النبوءة دون ادعاء قوللٍ أُوحي إليه، فإن الله قد يهلكه بعد حين كما كان في أمر الأسود العنسي الذي ادعى النبوءة باليَمن، ومُسيلمة الحنفي الذي ادعى النبوءة في اليَمامة، فإنهما لم يأتيا بكلام ينسبانه إلى الله تعالى، فكان إهلاكهما بعد مدة، ومثْلهما من ادعَوا النبوءة في الإِسلام مثل ‏(‏بَابك ومازيّار‏)‏‏.‏

وقال الفخر‏:‏ «قيل‏:‏ اليمين بمعنى القُوة والقدرة، والمعنى‏:‏ لأخذنا منه اليمينَ، أي سلبنا عنه القوة، والباء على هذا التقدير صلة زائدة‏.‏ واعلم أن حاصل هذا أنه لو نسب إلينا قولاً لم نقله لمنعناه عن ذلك‏:‏ إِما بواسطة إقامة الحجة فإنا نقيض له من يعارضه فيه وحينئذٍ يظهر للناس كذبه فيه فيكون ذلك إبطالاً لدعواه وهدْماً لكلامه، وإما بأن نسلب عنه القدرة على التكلم بذلك القول، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب» اه‏.‏ فركّب من تفسير اليمين بمعنى القوة، أن المراد قوة المتقوِّل لا قوة الله وانتزع من ذلك تأويل الباء على معنى الزيادة ولم يسبقه بهذا التأويل أحد من المفسرين ولا تَبعه فيه مَن بعده فيما رأينا‏.‏ وفيه نظر، وقد تبين بما فسرنا به الآية عدم الاحتجاج إلى تأويل الفخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏إنه لقول رسول كريم‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 40‏]‏، والضمير عائد إلى القرآن الذي تقدم ضميره في قوله‏:‏ ‏{‏إنه لقول رسول كريم، فلما أبطل طعنهم في القرآن بأنه قول شاعر، أو قول كاهن أعقب ببيان شرفه ونفعه، إمعاناً في إبطال كلامهم بإظهار الفرق البيّن بينه وبين شعر الشعراء وزمزمة الكهان، إذ هو تذكرة وليس ما ألحقوه به من أقوال أولئك من التذكير في شيء‏.‏

والتذكرة‏:‏ اسم مصدر التذكير وهو التنبيه إلى مغفول عنه‏.‏

والإِخبار ب وإنه لتذكرة‏}‏ إخبار بالمصدر للمبالغة في الوصف‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه مذكِّر للناس بما يغفلون عنه من العلم بالله وما يليق بجلاله لينتشلهم من هوة التمادي في الغفلة حتى يفوت الفوات، فالقرآن في ذاته تذكرة لمن يريد أن يتذكر سواء تذكَّر أم لم يتذكر، وقد تقدم تسمية القرآن بالذِكر والتذكير في آيات عديدة منها قوله تعالى في سورة طه ‏(‏3‏)‏ ‏{‏إلاّ تذكرة لمن يخشى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والمراد بالمتقين المؤمنون فإنهم المتصفون بتقوى الله لأنهم يؤمنون بالبعث والجزاء دون المشركين‏.‏ فالقرآن كان هادياً إياهم للإيمان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ وكلما نزل منه شيء أو تلوا منه شيئاً ذكرهم بما علموا لئلا تعتريهم غفلة أو نسيان فالقرآن تذكرة للمتقين في الماضي والحال والمستقبل، فإن الإِخبار عنه باسم المصدر يتحمل الأزمنة الثلاثة إذ المصدر لا إشعار له بوقت بخلاف الفعل وما أشبهه‏.‏

وإنما علق ‏{‏للمتقين‏}‏ بكونه ‏(‏تذكرة‏)‏ لأن المتقين هم الذين أدركوا مزيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

هاتان جملتان مرتبطتان، وأولاهما تمهيد وتوطئة للثانية، وهي معترضة بين التي قبلها والتي بعدها، والثانية منهما معطوفة على جملة ‏{‏وإنه لتذكرة للمتقين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 48‏]‏، فكان تقديم الجملة الأولى على الثانية اهتماماً بتنبيه المكذبين إلى حالهم وكانت أيضاً بمنزلة التتميم لِجملة ‏{‏وإنه لتذكرة للمتقين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ إنا بعثنا إليكم الرسول بهذا القرآن ونحن نعلم أنه سيكون منكم مكذبون له وبه، وعلمنا بذلك لم يصرفنا عن توجيه التذكير إليكم وإعادتِه عليكم ‏{‏ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّى عن بينة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 42‏]‏، فقوبلت صفة القرآن التي تنفع المتقين بصفته التي تُضر بالكافرين على طريقة التضاد، فبين الجملتين المتعاطفتين مُحسّن الطباق‏.‏

والحَسرة‏:‏ الندَم الشديد المتكرر على شيء فائت مرغوب فيه، ويقال لها‏:‏ التلهف، اشتقت من الحَسْر وهو الكشف لأن سببها ينكشف لصاحبها بعد فوات إدراكه ولا يزال يعاوده، فالقرآن حسرة على الكافرين أي سبب حسرة عليهم في الدنيا والآخرة، فهو حسرة عليهم في الدنيا لأنه فَضح تُرَّهَاتِهم ونقض عماد دينهم الباطل وكشف حقارة أصنامهم، وهو حسرة عليهم في الآخرة لأنهم يجدون مخالفته سبب عذابهم، ويقفون على اليقين بأن ما كان يدعوهم إليه هو سبب النجاح لو اتبعوه لا سيما وقد رأوا حسن عاقبة الذين صدّقوا به‏.‏

والمكذبون‏:‏ هم الكافرون‏.‏ وإنما عدل عن الإتيان بضميرهم إلى الاسم الظاهر لأن الحسرة تعم المكذبين يومئذٍ والذين سيكفرون به من بعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏وإنه لحسرة على الكافرين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 50‏]‏ فيحتمل أن يكون الضمير عائداً على القرآن لأن هذه من صفات القرآن، ويحتمل أن يكون مراداً به المذكور وهو كون القرآن حسرة على الكافرين، أي إن ذلك حق لا محالة أي هو جالب لحسرتهم في الدنيا والآخرة‏.‏

وإضافة حق إلى يقين يجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي إِنه لليقينُ الحق الموصوف بأنه يقين لا يَشك في كونه حقاً إلاّ من غشي على بصيرته وهذا أولى من جعل الإِضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي لليقين الحق، أي الذي لا تعتريه شبهة‏.‏

واعلم أن حق اليقين، وعين اليقين، وعلم اليقين، وقعت في القرآن‏.‏

فحق اليقين وقع في هذه السورة وفي آخر سورة الواقعة، وعلم اليقين وعين اليقين وقعا في سورة التكاثر، وهذه الثلاثة إضافتها من إضافة الصفة إلى الموصوف أو من إضافة الموصوف إلى الصفة كما ذكرنا‏.‏ ومعنى كل مركب منها هو محصل ما تدل عليه كلمتاه وإضافةُ إحداهما إلى الأخرى‏.‏

وقد اصطلح العلماء على جعل كلمة ‏(‏عِلم اليقين‏)‏ اسما اصطلاحياً لما أعطاه الدليل بتصوّر الأمور على ما هي عليه حسب كلام السيد الجرجاني في كتاب «التعريفات»، ووقع في كلام أبي البقاء في «الكليات» ما يدل على أن بعض هذه المركبات نقلت في بعض الاصطلاحات العلمية فصارت ألقاباً لمعان، وقال‏:‏ علم اليقين لأصحاب البرهان، وعين اليقين وحق اليقين أيضاً لأصحاب الكشف والعيان كالأنبياء والأولياء على حسب تفاوتهم في المراتب، قال‏:‏ وقد حقق المحققون من الحكماء بأن بعد المراتب الأربع للنفس ‏(‏يعني مراتب تحصيل العلم للنفس المذكورةَ في المنطق الأوليات، والمشاهدات الباطنية، والتجريبات، والمتواترات‏)‏ مرتبتين‏:‏ إحداهما مرتبة عين اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تشاهد المعقولات في المعارف التي تفيضها النفس كما هي، والثانية مرتبة حق اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تتصل بالمعقولات اتصالاً عقلياً وتلاقي ذاتها تلاقياً روحانياً‏.‏ واصطلح علماء التصوف على جعل كل مركب من هذه الثلاثة لقباً لمعنى من الانكشاف العقلي وجرت في كتاب «الفتوحات المكية» للشيخ محيي الدين بن عربي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

تفريع على جميع ما تقدم من وصف القرآن وتنزيهه على المطاعن وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما افتراه عليه المشركون، وعلى ما أيده الله به من ضرب المثل للمكذبين به بالأمم التي كذبت الرسل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح الله تسبيح ثناء وتعظيم شكراً له على ما أنعم به عليه من نعمة الرسالة وإنزال هذا القرآن عليه‏.‏

واسم الله هو العَلَم الدال على الذات‏.‏

والباء للمصاحبة، أي سبح الله تسبيحاً بالقول لأنه يجمع اعتقاد التنزيه والإقرارَ به وإشاعته‏.‏

والتسبيح‏:‏ التنزيه عن النقائص بالاعتقاد والعبادةِ والقول، فتعين أن يجري في التسبيح القولي اسم المنزِّه فلذلك قال ‏{‏فسبح باسم ربك‏}‏ ولم يقل فسبح ربَّك العظيم‏.‏ وقد تقدم في الكلام على البسملة وجه إقحام اسم في قوله‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وتسبيح المُنعم بالاعتقاد والقول وهما مستطاع شكر الشاكرين إذ لا يُبلغ إلى شكره بأقصى من ذلك، قال ابن عطية‏:‏ وفي ضمن ذلك استمرار النبي صلى الله عليه وسلم على أداء رسالته وإبلاغها‏.‏ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا نزلت هذه الآية «اجعلوها في ركوعكم» واستحَب التزامَ ذلك جماعة من العلماء، وكره مالك التزام ذلك لئلا يعد واجباً فرضاً اه‏.‏ وتقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الواقعة‏.‏

سورة المعارج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

كان كفار قريش يستهزئون فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به، ويسألونه تعجيله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ وكانوا أيضاً يسألون الله أن يوقع عليهم عذاباً إن كان القرآن حقاً من عنده قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ إن السائل شخص معين هو النضر بن الحارث قال‏:‏ ‏{‏إن كان هذا ‏(‏أي القرآن‏)‏ هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يعينه على المشركين بالقحط فأشارت الآية إلى ذلك كله، ولذلك فالمراد ب ‏{‏سائل‏}‏ فريقٌ أو شخص‏.‏

والسؤال مستعمل في معنيي الاستفهام عن شيء والدعاء، على أن استفهامهم مستعمل في التهكم والتعجيز‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏سأل سائل‏}‏ بمعنى استعجل وأَلَحّ‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سأل‏}‏ بإظهار الهمزة‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ‏{‏سال‏}‏ بتخفيف الهمزة ألفاً‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ وهي لغة قريش وهو يريد أن قريشاً قد يخففون المهموز في مقام الثقل وليس ذلك قياساً في لغتهم بل لغتهم تحقيق الهمز ولذلك قال سيبويه‏:‏ وليس ذا بقياس مُتْلَئِبَ ‏(‏أي مطرد مستقيم‏)‏ وإنما يحفظ عن العرب قال‏:‏ ويكون قياساً متلئباً، إذا اضطُر الشاعر، قال الفرزدق‏:‏

راحتْ بِمسلمةَ البغال عشية *** فارْعَيْ فَزازةُ لا هَنَاككِ المَرتَع

يريد لا هَنَأككِ بالهمز‏.‏ وقال حسان‏:‏

سَالتْ هُذْيلٌ رسولَ الله فاحشةً *** ضلتْ هُذيلٌ بمَا سَالت ولم تُصِبِ

يريد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إباحَةَ الزنا‏.‏ وقال القرشي زيدُ بن عمرو بن نفيل ‏(‏يذكر زَوجيه‏)‏‏:‏

سَألتَانِي الطلاقَ أنْ رَأتَاني *** قَلَّ مَالي قد جيتُمانِي بنُكْرِ

فهؤلاء ليس لغتهم سَال ولا يَسَالُ وبلغنا أن سَلْتَ تَسَال لغة ا ه‏.‏ فجعل إبدال الهمز ألفاً للضرورة مطرداً ولغير الضرورة يُسمع ولا يقاس عليه فتكون قراءة التخفيف سماعاً‏.‏ وذكر الطيبي عن أبي علي في الحجة‏:‏ أن من قرأ ‏{‏سَالَ‏}‏ غير مهموز جعل الألف منقلبة عن الواو التي هي عين الكلمة مثل‏:‏ قَال وخاف‏.‏ وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أنه سمع من يقول‏:‏ هما متساوِلان‏.‏ وقال في «الكشاف»‏:‏ يقولون ‏(‏أي أهل الحجاز‏)‏‏:‏ سَلْتَ تَسَالُ وهما يتسَايلان، أي فهو أجوف يائي مثل هاب يهاب‏.‏ وكل هذه تلتقي في أن نطق أهل الحجاز ‏{‏سال‏}‏ غيرَ مهموز سماعي، وليس بقياس عندهم وأنه إمّا تخفيف للهمزة على غير قياس مطرد وهو رأي سيبويه، وإما لغة لهم في هذا الفعل وأفعال أخرى جاء هذا الفعل أجوف واوياً كما هو رأي أبي علي أو أجوف يائياً كما هو رأي الزمخشري‏.‏

وبذلك يندحض تردد أبي حيان جعل الزمخشري قراءة ‏{‏سال‏}‏ لغة أهل الحجاز إذ قد يكون لبعض القبائل لغتان في فعل واحد‏.‏

وإنما اجتلب هنا لغة المخفف لثقل الهمز المفتوح بتوالي حركات قبله وبعده وهي أربع فتحات، ولذلك لم يرد في القرآن مخففاً في بعض القراءات إلاّ في هذا الموضع إذ لا نظير له في توالي حركات، وإلاّ فإنه لم يقرأ أحد بالتخفيف في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا سَألك عبادي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ وهو يساوي ‏{‏سال سائل بعذاب‏}‏ بله قوله‏:‏ سالتهم وتسالهم ولا يسالون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سال سائل‏}‏ بمنزلة سُئل لأن مجيء فاعل الفعل اسمَ فاعل من لفظ فعله لا يفيد زيادة علم بفاعل الفعل ما هو، فالعدول عن أن يقول‏:‏ سُئِل بعذاب إلى قوله ‏{‏سال سائل بعذاب‏}‏، لزيادة تصوير هذا السؤال العجيب، ومثله قول يزيد بن عمرو بن خويلد يهاجي النابغة‏:‏

وإن الغدْر قد عَلِمت معدٌّ *** بنَاه في بني ذُبيان بَانِي

ومن بلاغة القرآن تعدية ‏{‏سال‏}‏ بالباء ليصلح الفعل لمعنى الاستفهام والدعاء والاستعجال، لأن الباء تأتي بمعنى ‏(‏عن‏)‏ وهو من معاني الباء الواقعة بعد فعل السؤال نحو ‏{‏فاسال به خبيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 59‏]‏، وقول علقمة‏:‏

فإن تسألوني بالنساء فإنني *** خبير بأدواء النساء طبيب

أي إن تسألوني عن النساء، وقال الجوهري عن الأخفش‏:‏ يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان‏.‏ وجعل في «الكشاف» تعدية فعل سأل بالباء لتضمينه معنى عُني واهتمّ‏.‏ وقد علمت احتمال أن يكون سال بمعنى استعجل، فتكون تعديته بالباء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للكافرين‏}‏ يجوز أن يكون ظرفاً لغواً متعلقاً ب ‏{‏واقع،‏}‏ ويجوز أن يكون ظرفاً مستقراً خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير‏:‏ هو للكافرين‏.‏

واللام لشبه الملك، أي عذاب من خصائصهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏‏.‏

ووصف العذاب بأنه واقع، وما بعده من أوصافه إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنهم يرونه بعيداً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 6‏]‏ إدماج معترض ليفيد تعجيل الإِجابة عما سأل عنه سائل بكلا معنيي السؤال لأن السؤال لم يحك فيه عذاب معين وإنما كان مُجْملاً لأن السائل سأل عن عذاب غير موصوف، أو الداعي دعا بعذاب غير موصوف، فحكي السؤال مجملاً ليرتب عليه وصفه بهذه الأوصاف والتعلقات، فينتقل إلى ذكر أحوال هذا العذاب وما يحفّ به من الأهوال‏.‏

وقد طويت في مطاوي هذه التعلقات جمل كثيرة كان الكلام بذلك إيجازاً إذ حصل خلالها ما يفهم منه جواب السائل، واستجابة الداعي، والإِنباء بأنه عذاب واقع عليهم من الله لا يدفعه عنهم دافع، ولا يغرهم تأخره‏.‏

وهذه الأوصاف من قبيل الأسلوب الحكيم لأن ما عدد فيه من أوصاف العذاب وهَوْلِه ووقته هو الأولى لهم أن يعلموه ليحذروه، دون أن يخوضوا في تعيين وقته، فحصل من هذا كله معنى‏:‏ أنهم سألوا عن العذاب الذي هُددوا به عن وقته ووصفه سؤال استهزاء، ودعوا الله أن يرسل عليهم عذاباً إن كان القرآن حقاً، إظهاراً لقلة اكتراثهم بالإِنذار بالعذاب‏.‏

فأعلمهم أن العذاب الذي استهزأوا به واقع لا يدفعه عنهم تأخر وقته، فإن أرادوا النجاة فليحذروه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ يتنازع تعلقه وصفا ‏{‏واقع ودافع‏.‏‏}‏ و‏{‏مِن‏}‏ للابتداء المجازي على كلا التعلقين مع اختلاف العلاقة بحسب ما يقتضيه الوصف المتعلَّق به‏.‏

فابتداء الواقع استعارة لإذن الله بتسليط العذاب على الكافرين وهي استعارة شائعة تساوي الحقيقة‏.‏ وأما ابتداء الدافع فاستعارة لتجاوزه مع المدفوع عنه من مكان مَجازي تتناوله قدرة القادر مثل ‏{‏من‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 108‏]‏‏.‏

وبهذا يكون حرف ‏{‏مِن‏}‏ مستعملاً في تعيين مجازين متقاربين‏.‏

وإجراء وصف ‏{‏ذي المعارج‏}‏ على اسم الجلالة لاستحضار عظمة جلالة ولإِدماج الإِشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء قال تعالى‏:‏ ‏{‏لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ ولكل درجة المعارج قوم عملوا لنوالها قال تعالى‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏، وليكون من هذا الوصف تخلص إلى ذكر يوم الجزاء الذي يكون فيه العذاب الحق للكافرين‏.‏

و ‏{‏المعارج‏}‏‏:‏ جمع مِعْرَج بكسر الميم وفتح الراء وهو ما يعرج به، أي يصعد من سلم ومدرج‏.‏